تنبيه طبي :
لا ينصح بقراءة هذا المقال ، تحسبا لظهور أعراض مرضية خطيرة من قبيل الجلطة القلبية ، الشلل النصفي أو السكتة الدماغية ، للمنتمين للفئات التالية : العلمانيين التقدميين ، قدماء مناضلي اليسار الماركسي ، يتامى الاستعمار الفرنسي وجماعات الدفاع عن حقوق الشواذ والمثليين . لا يتحمل الكاتب أي مسؤولية قانونية ولا معنوية تجاه من يخالف هذا التحذير من الأفراد المنتمين للفئات المذكورة . يشمل التحذير الأزواج ، الأبناء ، والعائلات المرتبطة بصلة النسب أو المصاهرة .
استيقظ بطلنا منور ، وهو كما يحب أن يعرف نفسه ، علماني تقدمي حداثي متحرر، كعادته عند الساعة الثانية بعد الزوال وقد عقد العزم على أن يقطع مع التردد وأن يشد الرحال إلى عيادة الطبيب النفساني المشهور، لعل الأخير يجد له مخرجا من حالة الاكتئاب المزمن ترافقه منذ سنين لتزداد حدتها في الأشهر الأخيرة ، تنغص عليه حياته وتمنعه من الاستمتاع بملذاتها فلم تعد لا الخمور المعتقة تجتذبه ولا حتى معاشرة المومسات تغريه.
ألقى منور ، وهو تحريف لاسم نور الدين الذي طالما عانى من ثقل وقعه على أذنيه كلما نودي به ، بثقل جسده على كرسي الاعتراف ،عفوا على كنبة الطبيب النفساني ، لينطلق في سرد آلامه وأوجاعه المزمنة ، في ظل اهتمام طبيبنا المشهور وإصغاءه الكامل بعد أن أنبأته حاسته السادسة وخبرته الممتدة سنين طويلة في الميدان ، أنه يواجه حالة قد تكون من أصعب الحالات التي مرت به.
بدأت، متاعبي، أيها الطبيب ، خريف عام 1987 وتحديدا ، مع عودة انبعاث صوت الآذان على أمواج الإذاعات الوطنية والتلفزيون الرسمي ، ومع هذا الخطاب السياسي ، الذي لم أعهده ولم أستسغه ، خطاب يحدثك عن إعادة الاعتبار للدين (الحنيف) * وعن المصالحة مع الهوية العربية والإسلامية للبلاد ، حديث انقبضت له نفسي ، واستشفيت منه ، وقلب "العلماني" خبيره ، كما يقول المثل الشعبي ، أن تغييرا جذريا هو واقع لا محالة. دعوت في سري ، عفوا تمنيت في قرارة نفسي ، فالدعاء هو ملاذ المتخلفين والبسطاء الجهلة ، يبحثون عن السلوى في مناجاة من لا يعلمون له شكلا ولا مستقرا ( سبحانه جل في علياء سماواته عن إدراك البشر القاصرين )* ، أن يستمر قطار حياتي كما هو ، وأن لا يكون هذا الحديث الجديد ، إلا كلام خطب عابر، لا يبتغى منه إلا تخدير العامة ودغدغة المشاعر الدينية لدى السوقة والرعاع.
لتمر السنين وأستمع لنفس الخطاب يتكرر في كل المناسبات الرسمية والدينية والوطنية ، وليحدثك كبار رجال الدولة وصغار مسئوليها عن ضرورة التمسك بالثوابت وتدعيم مقومات الهوية الوطنية وعن الإسلام الوسطي دينا رسميا للدولة وعن قيم الاعتدال ونبذ العنف والتطرف ، لا يدركون أن الإسلام الذي يتحدثون عنه انتشر بقوة السيف ، وأن في عدم محاربة كل مظاهر الالتزام الديني وفي عدم فصل الدين عن الدولة ، كما دعا إلى ذلك كبار " مشايخنا "، نحن العلمانيين الحداثيين التقدميين ، من أمثال العظيم ( الصهيوني)* كارل ماركس والمفكرين الكبيرين ( الملحدين)* بارتران راسل وروبرت انقسول هو تخلف وظلامية وتقهقر إلى الوراء.
و يا ليت الأمر توقف عند حدود الخطب والشعارات الرنانة ، فقد رافقته على أرض الواقع ، مبادرات وإجراءات ، ازدادت معها حالتي النفسية تعكرا، لنشهد إقامة المسابقات تقام تحت إشراف رئيس الدولة ( وسامي رعايته)* ، في حفظ القرآن (الكريم )* وترتيله ، وليعاد الاعتبار لجامع الزيتونة ( المعمور)* وليؤذن بأن تتواصل تلاوة ( الذكر الحكيم )* في جنبات أركانه ( الطاهرة )* على امتداد السنة بلا انقطاع وليزداد عدد الجوامع والمساجد ويتضاعف عدد المآذن حتى لم يعد بالإمكان التواجد في مكان لا يصل إليه صوت المؤذن خمس مرات في اليوم والليلة ، يرهق سمعي ويزيد في تعذيب نفسي وازدياد كآبتي كلما ارتفع صوته إلى عنان السماوات ، داعيا الناس إلى التوقف عن الاستمتاع بملذات الحياة وإلى إضاعة الوقت في الوقوف خلف شخص ، قد يفوقونه ، ثقافة ومالا ووجاهة اجتماعية ، بزعم مناجاة اٍلاههم وخالقهم.
لم تسلم حتى قرطاج الجميلة ، ورغم ما تحمله من عبق التاريخ الممتد ، قبل أن تطأها أقدام الغزاة المسلمين، من هذا الهجوم الكاسح لأحفاد عقبة ( رضي الله عنه )* ، وهم العقبة أمام التقدم والحداثة ، ليقيموا فيها بناءا شامخا ضخما، صرفت لأجل إقامته ملايين الدنانير، لينطلق صوت المؤذن من أعلى منارة جامع العابدين السامقة ، يقلق راحة ، ملكتنا المتوجة عليسة ، في خلوتها " الشرعية " ، بقائدنا الهمام حنبعل.
لم تزل حالتي النفسية تزداد سوءا مع الأيام ، ولم يعد للمهدئات تأثير يذكر، لم أعد أتحمل تصفح جريدة تطالعني بأخبار التقارب العربي ، فما لنا نحن التونسيين وأولئك الأعراب وبدو الصحراء المتخلفين...؟؟!
لم أعد أقوى على مشاهدة نشرات الأخبار تحدثني عن التضامن الإسلامي لنصرة ما يسمى بفلسطين والسعي لاسترداد مبنى قديم ، يقول عنه البسطاء من الجاهلين أنه ، أول القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، فما لنا نحن التونسيين بصراع تدور رحاه مئات الأميال عن أرضنا، أ نعادي أوروبا وأمريكا والعالم الحر ، ونضحي بالامتيازات الاقتصادية والسياسية من أجل حفنة من الشعارات البالية عفا عليها الزمن وأكل عليها الدهر وشرب...؟؟
ثم مال هؤلاء المتخلفين ، ومن سار على دربهم من التونسيين، ودولة إسرائيل الديمقراطية الحديثة والمسالمة...؟؟ يستنكرون على أجهزتها الأمنية المتحضرة، قيامها بحماية مواطنيها من المستوطنين الأبرياء وسعيها إلى تطهير أراضيها من الفلسطينيين غير المتحضرين والمتربصين بها كل شر...؟؟ هل يستطيع عاقل أن يلوم الطيران الحربي الإسرائيلي ( المجرم )* لإغارته على حمام الشط وقيامه بقصف الفلسطينيين المتآمرين، ومن دفعه غباءه من التونسيين إلى الإقامة بجوارهم....؟؟
كرهت الخروج إلى الشارع وملاقاة الناس ، اختفت الحسناوات من الشوارع أو كدن، وقد كان زمن اختلن فيه بقدودهن الرشيقة في ثياب تظهر أكثر مما تخفي ، يستمتع الواحد منا باستراق النظر إلى الأجساد البضة ليجري به الخيال وتستبد به الشهوة ( الحيوانية)* أيما استبداد ، وقد تمتد المغامرة لتتحول إلى علاقة جسدية عابرة يستمتع فيها الطرفان أيما استمتاع ،بلا قيود ولا ضوابط ولا التزامات ولا عقود ولا مسؤوليات ، هما اثنان ( وثالثهما إبليس) *، يسرقان من الزمن لحظات نشوة عابرة ، هربا من ضغوط الحياة ، يلتقيان كلما زين لهما اللقاء وأخد الشوق بهما كل مأخذ، حول كأس من النبيذ لا تضاهي لذتها في الوجود لذة ليفترقا بعدها ، وقد لا يلتقيان مجددا، حسبهما ما غنماه من لحظات لذة عابرة في غفلة عن الزمن وعن القيود الاجتماعية البالية، وعن الذين يهولون الأمور ويعقدون الحياة ، يحدثونك عن حرمة الزنا وعن الخوف من اختلاط الأنساب !!
فما لنا وكل هذه الشعارات البالية...؟؟ ألا ينظرون إلى الطبيعة، ألا تتزاوج الأرانب والقطط والكلاب والأفاعي من دون أن تلقي اهتماما إلى كل تلك الاعتبارات السخيفة، تقضي وطرها وتمضي في حال سبيلها من دون عقد ولا منغصات...؟؟
ثم مال هؤلاء المتخلفين بأولئك المساكين من الشواذ والمثليين والسحاقيات، ولي منهم أصدقاء كثر ، يطاردونهم وينغصون عليهم وجودهم ويرهبونهم بسيف ، قوانين تخالف كل المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، مسلط على رقابهم ، ليلقوا بهم في غياهب السجون ، لمجرد علاقات جسدية ، وقد جربت أنا نفسي هذه العلاقات في فترات من الزمن كنت أمل فيها معاشرة النساء، ولا أجد أية غضاضة في الاعتراف بذلك !!
لم أعد أحبذ ركوب وسائل النقل العمومية ولا سيارات الأجرة ، فكأنما بجميع السائقين ، قد اجتمعوا على قلب رجل واحد لإيذائي نفسيا وإرهاق أعصابي ، يأبون إلا أن يشنفوا أسماعي بصوت الشيخ محمد مشفر أو الشيخ عبد الرحمان الحفيان ( حفظهما الله )* ، ينبعث صباح مساء ، على أثير إذاعة الزيتونة ( المباركة )* ، لتحمل إلينا آخر الأخبار، أنباء عن عزم باعثها ( أبقاه الله ورعاه )* إطلاق قناة تلفزية تحمل نفس الاسم في القريب العاجل لنشر " ما يسمونه " بقيم الاعتدال والوسطية وخدمة للدين ( الحنيف)*.
لم أعد ألقي بالا حتى إلى دعوات السفارات الغربية التي تكدست في البيت ، لحضور المؤتمرات وطاولات الحوار المستديرة حول ضرورة نشر الديمقراطية الغربية ( المعلبة)* والسعي إلى نشر الحرية الجنسية ( الفساد والانحلال الأخلاقي )* وحرية تناول ( استهداف ) * الرموز الدينية والتساؤل عن ( التطاول على )* الذات الاٍلاهية باسم الحرية والفن وضرورة النضال في سبيل الدفاع عن حقوق اللوطيين والشواذ والمتحولين جنسيا والفئات المتصلة ، رغم ما كنت أغنمه ، وأمثالي من الحضور ، من دعم مالي وإعلامي من منظمات ( دكاكين )* حقوق الإنسان وبرامج وزارات الخارجية الغربية لدعم الديمقراطية والحريات ( لدعم الجواسيس وباعة الأوطان )* في دول العالم غير المتحضر.
لم يسلم لنا، نحن العلمانيين الحداثيين التقدميين ، حتى زمن بورقيبة واٍرث دولة الاستقلال ، وقد كنا نوهم العالم بأننا الأوصياء عليه والحراس الأشداء على معبد التقدم والحداثة الخاص به ، نتباكى عليه ونذرف لأجله العبرات ( دموع التماسيح)* ونتخذ منه سلعة نستجدي بها دعم الغرب ودولاراته ، لم نسلم ممن يفضح أمرنا ويعري للعالم حقيقتنا وينازعنا ملكيته وينسبها إلى كل التونسيين.
سكت مريضنا منور، العلماني التقدمي الحداثي المتحرر، عن الكلام وانخرط في نوبة هستيرية من النواح والعويل. أدرك طبيبنا النفساني المشهور أن حدسه لم يخنه وأنه أمام حالة إكلينيكية متأخرة ، يعسر ، إن لم يكن ميؤوسا ، شفاءها. اعتصر الحكيم ذاكرته واستحضر كل خبرات السنين الماضية ، ليحرر وصفة العلاج لمريضه ، العلماني التقدمي الحداثي المتحرر، وودعه على أن يلقاه في حصة علاجية قادمة.
خرج مريضنا منور ، العلماني التقدمي الحداثي المتحرر، ليلقي بوصفة الطبيب في أول حاوية مهملات اعترضته، لقد مل من العقاقير والأدوية ويئس من الشفاء والفكاك من أسر وحش الاكتئاب الكاسر.
ركن سيارته عند أول حانة اعترضته ، صب ما طاب له وما سمحت به دنانير يومه المتبقية ، من الخمور في جوفه ، صبا ، يبغي نسيان همومه وأحزانه. قفل عائدا إلى سيارته ، تتلقفه الجدران والأعمدة ، هم بفتح الباب الأمامي والولوج إلى داخلها ، انتبه إلى لوحة إعلانية ضخمة ، أضيفت حديثا ، تمهل ليقرأ ما كتب فيها وقد غشي عينيه ضباب من أثر السكر.
قرأ مريضنا منور ، العلماني التقدمي الحداثي المتحرر، ما كتب على سطح اللوح الإعلاني ، ليصعق لما قرأه :
بشرى إلى كافة التونسيين ، قريبا افتتاح مصرف الزيتونة الإسلامي...
جن جنون مريضنا منور ، العلماني التقدمي الحداثي المتحرر، ليزيده انبعاث صوت الأذان من المساجد القريبة في تلك اللحظة ، هياجا ، اسودت الدنيا أمام عينيه ، وضاقت به الطريق على رحابتها...
انتظر اقتراب سيارة كانت مسرعة في اتجاهه...ليلقي بنفسه تحت عجلاتها ، دون أن يترك أي مجال لسائقها لتفادي الاصطدام .
صدم طبيبنا النفساني المشهور عند تصفحه لجريدته الصباحية :
مصرع (ن.ن) في حادث انتحار مروع تحت تأثير حالة السكر...
عانى القتيل مؤخرا من أزمات نفسية حادة ومن اضطرابات عقلية وسلوكية .
طوى طبيبنا النفساني المشهور الجريدة أسفا ونهض إلى عيادته ولسان حاله يقول :
غفر الله لمريضنا منور ، العلماني التقدمي الحداثي المتحرر ، وتجاوز عن سيئاته.
أسفي عليه، اختار أن يلاقي ربه في أسوأ حال.
سلم، الروح إلى بارئها ...
مخمورا وهو تحت تأثير أم الخبائث.
ملاحظة أولى :
كل ما ورد بين (...)* هو من إضافة كاتب المقال ومما لم يرد قطعا على لسان المرحوم ، منور ، العلماني التقدمي الحداثي المتحرر، تغمده المولى بفائق رحمته ورزق أهله جميل الصبر والسلوان.
ملاحظة ثانية :
كل ما ورد ذكره من أحداث تتعلق بشخصية المرحوم ، منور ، العلماني التقدمي الحداثي المتحرر، تغمده المولى بفائق رحمته ورزق أهله جميل الصبر والسلوان، هو من وحي خيال كاتب العمل وأي تشابه مع أحداث أو شخصيات واقعية لا يتعدى بالقطع مجال الصدفة الفنية والإبداعية ( غير البريئة ) .
ملاحظة أخيرة :
يكون توجيه الاعتراضات أو الاحتجاجات ،على ما ورد من أحداث تتعلق بشخصية المرحوم ، منور ، العلماني التقدمي الحداثي المتحرر، تغمده المولى بفائق رحمته ورزق أهله جميل الصبر والسلوان ، إن وجدت ، بتحرير شكوى على ورق عادي ، وإرسالها إلى ..... ( المرحوم العروي ) .
م.ي.ص (أبو فهد)
Commentaires
و الله أبدعت
ما عندي ما نقول كان تبارك الله عليك
كلامك أثلج صدري و فرهد على قلبي
بربي ديما أتحفنا بحويجات كيما هكا
و دمت ذخرا للوطن