تلك هي المسألة
الياس خوري
غداً يوم الأرض.
اليوم الوطني الذي صنعه الفلسطينيون اللاجئون في وطنهم، كي يعلنوا ان الشعب الذي عاش في بلاده منذ مئات السنين، صار امتدادا لأرضه التي تقدست بدم الشهداء.
النكبة الفلسطينية مستمرة في كل يوم، وفي كل يوم يعتدي الصهاينة على الأرض والاشجار والبيوت. يجرفون الزيتون، ويهدمون البيوت، ويقتلعون الناس من ارضهم.
في هذا اليوم، لفتني منشور وزع صباح السبت 26 آذار (مارس) الجاري، حين استفاق سكان البيوت المحيطة بمستوطنة 'نيئوت تسيون'، المقامة على السفوح الشرقية لجبل المكبّر في القدس، بمنشور وزع على البيوت العربية الفلسطينية، يدعو السكان الى مغادرة 'أرض اسرائيل' تنفيذاً لأوامر التوراة، ويعد بتقديم مساعدات مالية لمن يريد المغادرة طوعاً!'
قرأ سكان البيوت العربية المنشور واصيبوا بالذهول. والذهول ليس ناجما عن دعوات الترانسفير، التي يسمعها الفلسطينيون كل يوم، بل بسبب اضافة عنصر جديد لم يكن في الحسبان، وهو استعداد الصهاينة لتقديم مساعدات مالية، لمن يرتضي مغادرة الأراض المقدسة طوعاً.
فالتجربة التاريخية، علمت الفلسطينيين، ان الطرد مجاني، ويصاحبه قتل وتدمير، هذه حكاية جميع القرى العربية التي دُمرت عام 1948. والأنكى من ذلك ان الدولة العبرية لم تعترف يوماً بحدوثه، و/او بمسؤولياتها الأخلاقية والمادية عن عمليات التطهير العرقي التي حصلت في فلسطين عام 1948.
يقول المنشور ان هناك لغة اسرائيلية جديدة، يجب التوقف عندها، واخذها بجدية. بالطبع لم يصدّق احد من الفلسطينيين ان الاسرائيليين سيدفعون لمن يخرج. أغلب الظن انهم سيطردون الفلسطينيين، مثلما فعلوا في السابق، من دون ان يتوقفوا عن الشحاذة من الولايات المتحدة.
مَن من اليهود يستطيع ان ينسى كيف قبض ديفيد بن غوريون تعويضات من المانيا ثمناً لإحراق اليهود في معسكرات الإبادة؟ كان الضمير الانساني يشعر بالغضب والعار من الوحشية النازية، عندما قبض بن غوريون اموال التعويضات الألمانية، كأنه كان يقول للموتى اليهود انه قبض ثمن موتهم كي يستطيع الاستمرار في قتل الفلسطينيين. حتى مناحم بيغن اصيب بالذهول. بطل دير ياسين، الذي جعلته سخرية الأقدار ينهي حياته في مستشفى للأمراض العصبية في دير ياسين نفسها، لم يستطع ان يحتمل الرخص الأخلاقي الذي حكم تصرفات نبي اسرائيل الجديد ومؤسسها، وهو يقبض ثمن المحرقة.
لم يصدّق احد من سكان منطقة جبل المكبّر وعود التعويضات المالية، لكنهم فوجئوا باللغة الاسرائيلية الجديدة، التي صارت بديلا من لغة حزب العمل المراوغة والكاذبة. حزب العمل لم يعترف بحصول الجريمة التي ارتكبتها الهاغاناه والبالماح، كي يعتذر عنها. كما ان اسرائيل لم تعد تكتفي بإنكار النكبة، بل ان الكتل اليمينية في الكنيست تسعى الى سن قانون يعاقب بموجبه كل من يتذكر النكبة في وصفها يوم حداد وطني فلسطيني. سرقوا الأرض ويريدون اليوم محو الذاكرة!
تكشف لغة المنشور الجانب المخبأ من جبل الجليد الصهيوني القائم على مزيج من التعصب الديني الأهوج والعنصرية. الدعوة الى الترحيل تستند هذه المرة الى كلام توراتي مأخوذ من سفر العدد، وتستشهد بآيتين:
تقول الآية الأولى: 'فتطردون كل سكان الارض من امامكم وتمحون جميع تصاويرهم وتبيدون كل اصنامهم المسبوكة، وتخربون جميع مرتفعاتهم'. وهي كما نرى دعوة الى التصفية الشاملة لجميع سكان البلاد الأصليين.
أما الآية الثانية، فتبرر الطرد الجماعي: 'وان لم تطردوا سكان الارض من أمامكم يكون الذين تستبقون منهم أشواكا في اعينكم ومناخس في جوانبكم ويضايقونكم على الارض التي انتم ساكنون فيها'.
نحن اذا امام وعود 'نبوية' وعقول اعماها التعصب، وقلوب مقفلة بالحقد.
اهمية هذا المنشور، على الرغم من هامشيته، انه يكشف احتمالات التطور الثقافي والديني في الدولة العبرية. التسوية المراوغة التي اقامها بن غوريون بين التيارين العلماني 'اليساري' والديني سقطت اليوم. التسوية البن غوريونية كانت خدعة متفقا عليها، العلمانيون اعتقدوا ان التطور كفيل بتحطيم التيار الديني وتهميش مكاسبه، والتيار الديني اعتقد انه يستطيع ان يمتطي الدولة التي بناها العلمانيون بالحديد والنار، كي يجعل منها جزءا من النبوءة.
اسرائيل اليوم في وضعية مختلفة، القوتان الأساسيتان في السياسة الاسرائيلية هما التيار اليميني المتطرف الذي يتراوح بين التعصب القومي الأعمى: الليكود، والفاشية: ليبرمان، والتيار الديني الأصولي الذي يستعيد النصوص التوراتية كي يبرر الممارسات العنصرية، ويقف عند ظاهر النص محوّلا الاساطير التوراتية تاريخاً.
هذا التحالف يجد لنفسه ارضية سياسية صلبة تقول بلاجدوى السعي الى السلام. فاسرائيل تتمتع اليوم بالازدهار الاقتصادي، ولا تجد تهديدا حقيقيا لهيمنتها، فلماذا تقديم ما يطلق عليه الاسرائيليون اسم 'تنازلات مؤلمة'؟
لهذه الأسباب توقفت امام هذا المنشور الأرعن، لأنه يشير الى الاتجاه الصاعد في المجتمع الاسرائيلي: مزيج من الهوس الديني المسياني والعنصرية والشعور بالتفوق. لذا لم يعد هناك ما يُخجل في الكلام عن الترانسفير والتطهير العرقي، ولم تعد اسرائيل تخفي انخراطها في الحمّى الدينية القومية، التي تجعلها تستبيح القدس، استباحة منظمة عبر هتك الناس والبيوت والمقابر.
يستطيع الاسرائيليون الاستمرار في لعبتهم الدموية هذه، لأن لا وجود لرد الحد الأدنى العربي. فالعرب في قمة سرت يبحثون في المصير البائس لمبادرتهم. بدلا من ان يسألوا لماذ رفضت مبادرة سلامهم، عليهم ان يبحثوا كيف يحولون الكلام أفعالا، لكنهم يواصلون الكلام الذي فقد معناه.
حتى الغضب الامريكي ضد اسرائيل، الذي اشارت اليه الطريقة المهينة التي تعامل بها باراك أوباما مع زيارة نتنياهو لواشنطن، لا يمكن تثميره الا اذا رافقه غضب عربي بالافعال لا بالاقوال.
قمة الحضيض في سرت لن تأتي بجديد، فالحضيض يأخذنا الى مزيد من الحضيض. اما اصحاب المنشور الديني العنصري فلن يعودوا الى رشدهم الا اذا شعروا بأنهم سيدفعون الثمن.
وفي الانتظار تتكئ القدس على دمعها ودمها.
القدس العربي
3/30/2010