Ok

En poursuivant votre navigation sur ce site, vous acceptez l'utilisation de cookies. Ces derniers assurent le bon fonctionnement de nos services. En savoir plus.

في حضرة الغياب - محمود درويش

سطـراً سطـراً، أنثـرك أمـامـي بكفـاءة لـم أوتهـا إلا فـي المطـالـع.
وأطيـل خطبتــي كشـاعــر يحتفـظ بالمقطـع الأخيـر، ليطـيـل التأمـل فـي مـامضــى من هـوايتــه.
هـوايتــه هــي عـدّ الدرجــات التــي يراهــا أمــامـه، والمشـي علـى شارع جـانبــيّ وجمـع الأصــداف ... ومؤانســة الكســل.
الكســل اجتهــاد ومهــارة. إفــراغ القلــب ممـا يـزيـد عن حـاجتــه إلـي الخفقـان، وتمييــز بـين الـوقـــت والـزمــن. فمـن يملــك وقتــاً أكثــر يتحــرر مـن خشيــة الـزمــن.
الـزمــن نهــر سلــس لمـن لا ينتبــه إليــه، وحشــيّ شـرس لمـن يحـدق إليــه، فتخطفــه الهــاويــة.
الهـاويــة هــي إغــواء الأعمــاق وجـاذبيــة المجهـول، اذ تصبــح السمــاء حفــرة واسعــة كثيفــة الغيــوم.
الغيــوم تغطيــك، يـاصاحبــي، بقطنهــا وتغطينــي ... فـي هـذ المكـان الهـارب مـن صفـاتــه إلـى مـا تُسبـل عليــه الغيـوم مـن خفــة الشكـل ومـادة المعنــى.
المعنـى أيضــاً يلـوّح، مـن بعيــد، بيـد سمـاويــة مبتــورة الأصـابــع، مـن شـدة الحـراثــة فـي أرض غيـر ذات زرع ، ولا سعـادة.
السعــادة مـادة روحيــة يختلــف علـى تعـريفهــا مـن يتفقـون علـى أن الحظ مـوهبــة، والمـوهبـة حـظ، ويختلـف علـى مـديحهــا مـن يملكـونهـا ويدخـرونهــا فـي صنـدوق مقفــل. ومـا هـي إلا رشـوة مـن المستحيــل.
المستحيــل هـو الممكـن الطمــوح، يخـرج إلـى الشــارع شـاهـراً مقصـاً لتقليــم الأغصـان اليـابســة والأفكــار، وتعليــم الحـالــم إدارة النهــار علـى وتـيرة مـا يـرى.
يـرى أن رفـرفـة أجنحــة الفـراشـة، فـي مـروحــة اللـون، هـي أفضــل علاج للألــم.
الألــم، إذ لا تفكـر فيــه، لا تحــسُّ بــه. كأنــه يبجُّـل هـدوءك هـذا أمــام عـدم لا يبـدي رأيــاً فيــك ولا تبـدي رأيـاً فيــه. لا يـرى ولا يُـرى . هــو اللاشــيءُ وقـد اكتمــل.
واكتمــل القمــر علـى خلوتنــا فـي هـذ الفـراغ. واكتملــت ذاكـراتــي.
ذاكـراتــي رمــانـة. هل أفرطهـا عليـك حبــةً حبــةً، وانثـرهـا عليـك لـؤلـؤاً احمـر يلــيـق بــوداع لا يطلــب منـي شيئــاً غيــر النسيــان.
النسيــان تــدريــب الخيــال علـى احتــرام الـواقــع بتعــالــي اللغـة، واحتفـاظ الأمل العصـامــيّ بصـورة نـاقصـة عـن الغــد.
الغــدُ، وهـو هنـا أمـامنـا يـا صاحبـي، عـار مـن الـزمــن، مـرمــيٌّ علـى حفـرة، فـي انتظــار ورقـة تـوت ميتـافيــزيقيــة تغطــي سـوءة العـابـر.
العـابــر مـن ليــل الضــوء إلـى ضـوء الليـل.
الليــل يهبـط علينــا. وعلينـا أن نأبــه بشـواغــل الـذيـن تـركـونــا وذهبـوا إلـى ليلهـم الخـاص، ينسـون أو يتذكـرون مقطعـاً مـن خطبـة الـوداع.
الــوداع هـو الصمــت الفــاصــل بيـن الصـوت والصــدى. أمــا الصــوت فقـد انكســر. وأمــا الصـدى فقـد حفظتــه وديـان وكهــوف مـرهفــة السمــع كآذان كـونيـة، وضخمتــه صـدىً للصـدى.
الصــدى وصيــة الـزائـر للعـابــر، وقيـافـــة الطـائــر للطـائــر، وإلحــاح النهــايــة علـى إطــالــة الحكـايــة ... الصـدى هـو نقــش الاســم فـي الهــواء.
الهـواء بـاردٌ، يـاصـاحبــي، بـارد ومنعــش. ولـم يبـق احـد سـواي يسلّيك ويلهيـك عمـا أنــت فيــه علـى متـري هـذا العـدم.العـدم مـتـران محـاطــان بنبـات يستعــد لاستنشـاق الأوكسجيــن. العـدم محـاصـر بهــواء بـارد ومنعــش. سأبـذر بـذور بنفســج علـى هـذيـن المتـريـن، وأسكــب المــاء لينهـض العـدم مهـرولاً ويمضـي بعيـداً.
بعيـداً، لا شأن لأحلامنــا بمـا نفعـل. الـريــح تحمــل الليــل وتمضــي، ولا هـدف.
الهـدف يختلــف مـن درب إلـي درب. لكـن الـدروب كثيــرة ووعــرة، والمؤونــة مـن العمــر قليـلة.
وقليـلة هـي الأغـانــي.
الأغــانــي، حسبنــا منهــا استـراق السمــع إلـى اعتـذار المـوت مـن بعـض المـوتـى، واختـلاس النظــر إلـى بحبـوحــة النثــر.
النثــر جـار الشـعــر ونـزهـة الشـاعـر.
الشـاعــر هـو الحـائـر بيـن الشعـر والنثــر.
والشعـر إخفـاء الـزوال عـن الزائـل، وجملـة اعتـراضيــة بيـن الفعـل والفـاعـل والمفعـول بـه، كأن تقـول: تـركــت المرأة وهـي تخفـي دمـوعهــا، صـاحبهــا. ففــي الجملــة الاعتـراضيــة بيـن " تـركــت " و " صـاحبهـا " وقــت يكفــي كــي يذوب ملــح الغضـب، وتتلألا النجــوم.
النجــوم تُطلُّ، يـا صـاحبـي، علينــا كلمعـان أزرار ذهبيــة علـى معطـف الأبـديــة. تطــل علينـا مـن مـوت بعيـد لـم يصـل إلينـا بعـد. وأنـا أتـلو عليـك خطبتــي تنـدس نجمـة فـي كـلامــي وتضـيء عتمتـي : لعــل المـوت مجــازٌ يذكـرنـا بسـرّ فـي الحيــاة لـم ننتبـه إليـه، فمـا هـو؟
مـا هــو؟ لـو عـرفنــاه لتغيــرت مشـاريعنــا، فمـا لا نعـرف مـوجــود، ومـا نعـرف محـدود يتغيــر. وعـلـى قبـرك هــذا ينبــت عشــب أقــوى منــك ومنـي، فـلا أعـرف هـل أحـزن أم لا أحـزن لأن الحيــاة أرملـة راقصــة لا تكتـرث إلا بمـا ينقصهــا؟
ينقصهــا مـديــح المـوتــى وعتـابهــم فـي آن واحــد: لـو قلــت لنــا مـن أنــت، وأن هنـالك مـوتــاً أقسـى منـك، لأحببنــاك وقدسنــاك، وخففنـا مـن أمتعــة الـرحلــة.
الرحلــة غــايــة.
والغـايــة إغــواء المجهــول.
والمجهــول بعيـد عنـا وقـريب منــا ... يستدرجنــا إلـى الامتـلاء بجهـل لا حـدّ لـه، فنجتهــد لإتقــان جهــل آخــر. لكننــا قنعنــا بالبحــث عـن معلـوم يـرشدنــا إلـى حيـاة مـا فـي الحيــاة، فصـار المعلـوم عصيّاً.
وعصيـاً كـان كـل شـيء. فـي ظلـك حشـد ظـلال، فلا تـدري مـن يمشــي فيـك. وفيــك تقـاطــع طـرق مـلأى بخــطـى غـزاة هبطـوا عليــك كمظلييـن مـدربيـن علـى استخـام محـاريثك. وفـي اسمـك أخطـاء سببهــا حـريــق هـائل فـي الخـارطــة.وعــى بيتـك تبنـى آثـار رومـانيــة. أمــا أنــت، فـلا صـورة لـك إلا الشبــح.

Les commentaires sont fermés.