Ok

En poursuivant votre navigation sur ce site, vous acceptez l'utilisation de cookies. Ces derniers assurent le bon fonctionnement de nos services. En savoir plus.

محمود درويش - غزّة تحرّر نفسها من صفاتنا ولغتنا ومن غُزاتها

n546744436_714764_8658.jpg
تحيط خاصرتها بالألغام.. وتنفجر.. لا هو موت.. ولا هو انتحار. 
انه أسلوب غزة في إعلان جَدارتها بالحياة.

منذ أربع سنوات ولحم غزة يتطاير شظايا قذائف. 
لا هو سِحْر ولا هو أعجوبة، انه سلاح غزّة في الدفاع عن بقائها وفي استنزاف العدو.

ومنذ أربع سنوات والعدوّ مبتهج بأحلامه .. مفتون بمغازلة الزمن .. إلاّ في غزّة. 
لأن غزّة بعيدة عن أقاربها ولصيقة بالأعداء ..

لأن غزّة جزيرة كلّما انفجرت، وهي لا تكفّ عن الإنفجار، خدشت وجه العدوّ وكسّرت أحلامه وصدّته عن الرِّضا بالزمن .

لأن الزمن في غزّة شيء آخر .. لأن الزمن في غزّة ليس عنصرًا محايدًا. إنه لا يدفع الناس إلى برودة التأمل، ولكنه يدفعهم إلى الانفجار والارتطام بالحقيقة. الزمن هناك لا يأخذ الأطفال من الطفولة إلى الشيخوخة ولكنه يجعلهم رجالاً في أوّل لقاء مع العدوّ ..

 

 

ليس الزمن في غزّة استرخاء ، ولكنه اقتحام الظهيرة المشتعلة ..

لأن القيم في غزّة تختلف.. تختلف.. تختلف ..

القيمة الوحيدة للانسان المحتل هي مدى مقاومته للاحتلال هذه هي المنافسة الوحيدة هناك؛ وغزّة أدمنت معرفة هذه القيمة النبيلة القاسية.. لم تتعلمها من الكتب ولا من الدورات الدراسية العاجلة، ولا من أبواق الدعاية العالية الصوت ولا من الأناشيد. لقد تعلمتها بالتجربة وحدها وبالعمل الذي لا يكون إلا من أجل الاعلان والصورة.

إن غزّة لا تباهي بأسلحتها وثوريّتها وميزانيّتها. انها تقدم لحمها المُرّ وتتصرف بإرادتها وتسكب دمها. 
وغزّة لا تتقن الخطابة .. ليس لغزّة حنجرة .. مسام جلدها هي التي تتكلم عرقًا ودمًا وحرائق . 
من هنا يكرهها العدوّ حتى القتل . ويخافها حتى الجريمة . ويسعى إلى إغراقها في البحر او في الصحراء أو في الدم .
من هنا يحبها أقاربها وأصدقاؤها على استحياء يصل إلى الغيرة والخوف أحياناً.

لأن غزّة هي الدّرس الوحشيّ والنموذج المشرق للأعداء والأصدقاء على السَّواء .

ليست غزة أجمل المدن .. 
ليس شاطئها أشدَّ زرقة من شؤاطئ المدن العربية 
وليس برتقالها أجمل برتقال على حوض البحر الأبيض . 
وليست غزة أغنى المدن .. 
وليست أرقى المدن وليست أكبر المدن . ولكنها تعادل تاريخ أمّة . لأنها أشدُّ قبحًا في عيون الأعداء ، وفقرًا وبؤسًا وشراسة. لأنها أشدّنا قدرة على تعكير مزاج العدوّ وراحته ، لأنها كابوسه، لأنها برتقال ملغوم، وأطفال بلا طفولة وشيوخ بلا شيخوخة، ونساء بلا رغبات، لأنها كذلك فهي أجملنا وأصفانا وأغنانا وأكثرنا جدارة بالحب .

نظلمها حين نبحث عن أشعارها فلا نشوّهَن جمال غزة ، أجمل ما فيها انها خالية من الشعر ، في وقت حاولنا أن ننتصر فيه على العدوّ بالقصائد فصدّقنا أنفسنا وابتهجنا حين رأينا العدوّ يتركنا نغني .. وتركناه ينتصر ثم جفّفنا القصائد عن شفاهنا ، فرأينا العدوّ وقد أتمّ بناء المدن والحصون والشوارع .

ونظلم غزة حين نحولها إلى أسطورة لأننا سنكرهها حين نكتشف أنها ليست أكثر من مدينة فقيرة صغيرة تقاوم .
وحين نتساءل : ما الذي جعلها أسطورة؟ سنحطم كل مرايانا ونبكي لو كانت فينا كرامة، أو نلعنها لو رفضنا أن نثور على أنفسنا .

ونظلم غزة لو مجّدناها لأن الافتتان بها سيأخذنا إلى حدّ الانتظار ، وغزة لا تجيء الينا. غزة لا تحرّرنا. ليست لغزة خيول ولا طائرات ولا عصيّ سحرية ولا مكاتب في العواصم. ان غزة تحرر نفسها من صفاتنا ولغتنا ومن غُزاتها في وقت واحد. وحين نلتقي بها – ذات حلم – ربما لن تعرفنا ، لأن غزة من مواليد النار ونحن من مواليد الانتظار والبكاء على الديار .

صحيح ان لغزة ظروفاً خاصة وتقاليد ثورية خاصة ، ولكن سرّها ليس لغزًا : مقاومتها شعبية متلاحمة تعرف ماذا تريد (تريد طرد العدو من ثيابها)، وعلاقة المقاومة فيها بالجماهير هي علاقة الجلد بالعظم . وليست علاقة المدرّس بالطلبة . لم تتحول المقاومة في غزة إلى وظيفة ولم تتحول المقاومة في غزة إلى مؤسسة .

لم تقبل وصاية أحد ولم تعلّق مصيرها على توقيع أحد أو بصمة أحد 
ولا يهمّها كثيراً أن نعرف اسمها وصورتها وفصاحتها، لم تصدق أنها مادّة إعلامية.

لم تتأهب لعدسات التصوير ولم تضع معجون الابتسام على وجهها . 
لا هي تريد .. ولا نحن نريد.

من هنا تكون غزة تجارة خاسرة للسماسرة. ومن هنا تكون كنزًا معنويًّا واخلاقيًّا لا يقدَّر لكل العرب .

ومن جمال غزة أن أصواتنا لا تصل إليها. لا شيء يشغلها، لا شيء يدير قبضتها عن وجه العدوّ لأشكال الحكم في الدولة الفلسطينية التي سننشئها على الجانب الشرقي من القمر، أو على الجانب الغربي من المرّيخ حين يتم اكتشافه. انها منكبّة على الرفض .. الجوع والرفض والعطش والرفض التشرد والرفض التعذيب والرفض الحصار والرفض والموت والرفض .

قد ينتصر الأعداء على غزة (وقد ينتصر البحر الهائج على جزيرة) قد يقطعون كل أشجارها 
قد يكسرون عظامها قد يزرعون الدبابات في أحشاء أطفالها ونسائها، وقد يرمونها في البحر أوالرمل أو الدم، ولكنها لن تكرر الأكاذيب ولن تقول للغزاة: نعم . وستستمرّ في الانفجار 
لا هو موت ولا هو انتحار، ولكنه أسلوب غزّة في إعلان جدارتها بالحياة ...

فاصلة : 
وستستمرّ في الانفجار 
لا هو موت ولا هو انتحار، ولكنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة ...

(*)  قلم محمود درويش في كتاب "حيرة العائد - مقالات مختارة" - صدر في 1 آب 2007.

Les commentaires sont fermés.