علي بن خليفة النفاتي : (1807 - 1885) والي وعسكري تونسي قاوم الفرنسيين
"كم من رجال منا يخوضون المعارك الحربية كالأسود، ويرون الموت في ساحة الوغى أهون من الاستسلام للأعداء"..
هكذا كتب هذا الرجل -المنسي عمدا- "علي بن خليفة النفاتي"، والذي توخت الحقبة البورقيبية أن تتجاهله عند تدوين تاريخ تونس المتعلق بالحقبة الاستعمارية (1881-1956)، رغم أنه قائد الثورة الأولى ضد الاحتلال، وهي ثورة إسلامية الوجهة شهدتها تونس بمجرد توقيع الملك (الباي) على معاهدة باردو في مايو 1881 التي خولت بموجبها الإمبراطورية الفرنسية أمر الحماية على تونس.
واستمرت الثورة رغم ضعف إمكاناتها 10 سنوات، وبدأها النفاتي وهو في الرابعة والسبعين من عمره؛ لذا لقبه الفرنسيون بـ"العجوز المتمرد".. قد يكون حطًّا من قدره، لكن الأغلب أنه الإعجاب..
البحث في سيرته مضنٍ؛ لأنك بالكاد قد تجد عن الرجل سطرا أو أقل هنا أو هناك، لكنه يقينًا لم ينسَه البسطاء من الشعب التونسي، فخلدوه في السير والملاحم الشعبية.. لم لا وهو سليل الهلاليين أصحاب السيرة الشعبية الشهيرة؟
وُلد سنة 1807 م، وتوفي 1885، ويرجع نسبه إلى قبيلة "نفات"، المنحدرة من قبيلة بني سليم النجدية العربية القادمة إلى بلاد شمال أفريقيا مع الزحف الهلالي، ينتمي إلى عائلة "أولاد خليفة"، التي تولت حكم القبيلة على امتداد القرون الأربعة التي سبقت الاستقلال.
شب علي بن خليفة على تربية العائلات العربية التي تميزت بالترحال بين الحياة الحضرية والحياة البدوية، وفقا لفصول السنة، ليجمع بين مميزات المجتمعين من حرص على التحصيل العلمي والمعرفي، وإلمام بقواعد الحضارة والأدب، وكذا تشبث بأخلاق الفروسية وارتباط بقيم الحرية، كان يهوى حضور مجالس الشيوخ وما فيها من حكمة وتجارب وسرد للتاريخ.
ولم يتشبث فحسب بالقيم والمبادئ الإسلامية بل كان دائم السعي إلى الاطلاع على منجزات الآخر.
على المستوى الإداري ترقى ابن خليفة حتى صار واليًا (أعلى سلطة إدارية آنذاك)، أما على المستوى العسكري، فيذكر المؤرخون أنه وصل لأعلى رتبة عسكرية في الجيش التونسي (أمير لواء)، لقد ولى الباي (الملك التونسي) الشيخ علي بن خليفة ولايةَ عدة مناطق هامة آخرها "الأعراض" حيث أدركته الحماية الفرنسية.
وعلى نحو ما يذكر المؤرخون فإن حكم الشيخ علي بن خليفة تميز بعدة أمور، أهمها:
- القضاء على الفتن الداخلية في البلاد، ومنها فتنة "اليوسفية" و"الشدادية"، وهي صراع قبلي ذهب ضحيته آلاف.
- العدالة الاقتصادية، وذلك من خلال التقسيم العادل لإقطاعيات الرعي، الذي كان يشكل العمود الفقري لاقتصاد المنطقة.
- الولاء لفكرة الوحدة الإسلامية ممثلة في الخلافة العثمانية الإسلامية بموقف لا يلين جعله يسهم في قمع ثورة "علي بن غذاهم"، وهي ثورة محلية قامت لخلع الحكم العثماني ورموزه، ثم لم يتردد النفاتي في خلع بيعته للباي بمجرد توقيع الباي على معاهدة الحماية الفرنسية، وأطلق مقولته الشهيرة على الملأ في مقر حكمه بمدينة قابس: "الآن أصبحت طاعة الباي كفرًا"، والتي كانت إيذانا بانطلاق الثورة ضد الغزاة الفرنسيين والباي وأعوانه معًا.
لقد بدأت أولى خطوات ثورة الشيخ علي بن خليفة بمرحلة الإعداد لها؛ حيث بادر قائدها إلى جمع المجاهدين من مختلف القبائل وتنظيمهم في إطار موحد، وهو ما لم يكن سهل الحدوث؛ حيث كانت النزاعات القبلية طاغية، كما كانت محاولات الباي جارية بإيعاز من سلطات الحماية الفرنسية- لاستقطاب زعماء القبائل إلى جانبه بذريعة أن مصلحة البلاد كانت تقتضي التوقيع على توقيع معاهدة الاحتلال.
توج الشيخ تحركاته باجتماع كبير عقده في مسجد عقبة بن نافع في القيروان أوائل شهر يونيو 1881، بحضور قادة القبائل وأعيان العاصمة الدينية للبلاد، وخلال خطبة الإعلان عن الثورة في مسجد عقبة عمل الشيخ على "تحريض قادة وأعيان الشعب التونسي على الجهاد، مذكرا بواجب المسلم نحو دينه وأرضه، وداعيًا إلى الثبات على الصفوف والمحافظة على علو النفس والهمة".
وقد تلا اجتماع القيروان خطوات أخرى سياسية ودبلوماسية؛ حيث أرسل الشيخ علي مبعوثين إلى والي طرابلس؛ لاستطلاع موقفه، وتبليغه رغبة الثورة في الدعم بالمال والسلاح، ولما تأخر رد الوالي بادر بتسليح كل من يقدر على حمل السلاح من أبناء قبيلته "نفات"، وإعدادهم لخوض غمار الحرب.
انطلق في حرب عصابات لمواجهة الفرنسيين فقد مرَّ الشيخ بمدينة صفاقس يوم 15 يونيو 1881، وهو في طريقه إلى القيروان لعقد اجتماع مع اثنين من شيوخها، هما محمد كمون ومحمد الشريف، على تنسيق أعمال المقاومة، وعدم الاستجابة لدعوات الباي في تسليم المدينة للفرنسيين.
وفي 25 يونيو 1881 اعترض الشيخ طريق فيلق عسكري من الحامية التونسية، قام بإبادته بعد معركة قصيرة بأرض "المهاذبة" جنوب صفاقس، وهو في طريقه إلى مقر قيادته في "دار الفريك" في قابس. واستطاع الشيخ علي إثر هذه المعركة توسيع قواته لتشمل فرسانًا من قبائل أخرى، وفي 2 يوليو 1881 تحرك الشيخ علي بجيش متواضع التجهيز؛ لنجدة مدينة صفاقس الثائرة، حيث أمسى قادة مقاومتها يعترفون بإمارته لشعورهم بسيطرته المطلقة على القبائل البدوية. وعلى الرغم من عدم تكافؤ القوى فقد تمكن الشيخ علي بن خليفة من قيادة معارك باسلة، أظهر خلالها قدرات عسكرية فائقة وبطولات حيرت الضباط الفرنسيين الذين كانوا يقودون الحملة؛ مما حدا بالمؤرخ الفرنسي "مارتال" الذي يذكر في كتابه "حدود تونس الصحراوية الطرابلسية": "إن فرسان الشيخ علي الأبطال قد وقفوا سدًّا منيعًا أمام الجيش الفرنسي بمدافعه وتجهيزه الحربي الكبير؛ حيث اضطروه إلى القبوع في مواقعه، والاحتماء بسفنه 15 يومًا، ولولا وصول المدد ونفاد الذخيرة عن المجاهدين -يقول المؤرخ- لكانت أحواز صفاقس مقبرة للفرنسيين، ولانقلبت الآية لصالح الثورة في المعركة التي انتهت يوم 17 يوليو 1881.
بعد خسارته معركة صفاقس اضطر الشيخ علي -الذي أصيبت رجله في الحرب، فأكمل حياته أعرج؛ حيث كان يشارك في القتال بنفسه- إلى التوجه لمنطقة "ودران" جنوب المدينة؛ حيث بادر من هناك إلى تجديد اتصالاته ببقية جبهات المقاومة، كما قام بإرسال حملة تكونت من خمسمائة فارس وألفين من المشاة، ألحقت خسائر كبيرة بممتلكات الباي في العاصمة، وعادت بألف رأس من الإبل دون أن تتمكن القوات الفرنسية من تتبعها.
وقد خاض الشيخ علي بن خليفة معركة أخرى دامية من أجل فك الحصار المضروب على مدينة قابس، التي قامت القوات الفرنسية بعملية إنزال كبير في مينائها، واستمرت في قصف المدينة من البحر بالمدفعية لأيام طويلة، وقاد ذلك إلى سقوط ما يزيد عن 50 شهيدا يوم 31 يوليو 1881؛ دفاعًا عن مقر الشيخ المعروف بـ"دار الفريك"، الذي جرى تدميره بالكامل.
رغم مرارة الهزيمة في صفاقس وقابس لم ييئس الشيخ علي بن خليفة، وأصر على أن تواصل الثورة غليانها، بالاعتماد على ثبات المجاهدين وقدراتهم الذاتية.. ففي منتصف أكتوبر 1881 تقدم الشيخ الثائر بقواته شمالا إلى أن وصل القيروان. لكنه اضطر في منتصف شهر نوفمبر 1881 إلى الزحف نحو بلدة "وذرف" الجنوبية، ليتخذها مقرًّا جديدًا لقيادته العسكرية، ويقود من خلالها آخر معارك الدفاع عن قابس وضواحيها، وذلك قبل سقوطها بشكل نهائي في أيدي القوات الفرنسية.
وفي 20 نوفمبر 1881 انسحب الشيخ بكثير من المرارة والأسى نحو أقصى الجنوب، وحل بوادي "الزاس"، حيث التحق به إخوته ومن معهم من الأتباع بعد 3 أيام. وقد ظل هناك ينتظر قدوم مدد من فرسان القبائل، آملا أن يكون منهم نواة للهجوم على قابس، وزاد من لوعته استسلام محمد بن شرف والمقاومين في قابس، فانسحب بصمت نحو ليبيا.
انطلقت الثورة مجددا من وراء الحدود حيث خمدت المقاومة المسلحة في تونس بعد نزوح زعيمها الشيخ علي بن خليفة إلى الأراضي الليبية المجاورة مع 30 ألفا من أتباعه، و140 ألفا من المهاجرين من أتباع بقية زعماء المقاومة، غير أن هذا الخمود لم يمنعه من مواصلة الحلم . فعلى الصعيد الحربي واصل الشيخ من المهجر إعداد حملات الإغارة على المواقع الفرنسية في عمق التراب التونسي؛ وذلك بهدف الحفاظ على الشعور العام لدى شعبه بأن جذوة الثورة لم تمُت، وإشعار الفرنسيين أيضا بأنهم لن يهنئوا بطيب المقام في تونس. أما على الصعيد السياسي فقد واظب الشيخ على الاجتماع بباشا طرابلس (الوالي العثماني فيها)، كما كان يبعث برسله إلى الأستانة عاصمة الخلافة، مطالبًا بإمداده بالإغاثة لمعاودة الجهاد ضد فرنسا.
وكان ابن أخيه محمد بن صالح أهم سفرائه إلى تركيا حيث قام سنة 1882 بالاتصال بالوزير خير الدين باشا التونسي للوقوف على موقفه من الثورة، غير أن هذا الأخير قابله بكثير من البرود؛ مما أثر سلبا في نفسية الشيخ الثائر.
كما واجه الشيخ كل أساليب الحرب النفسية، ومنها مساعي رسل الباي مع المهاجرين؛ لإغرائهم وتشجيعهم على العودة لتونس، حرصًا من الشيخ على المحافظة على رصيد بشري يمكن للثورة أن تستأنف به عملها متى ما تيسر لها الدعم المادي. ومن ذلك تصديه بالرد للخبر الذي نشرته جريدة "الجوائب" الصادرة بالأستانة، والذي حاولت الاستخبارات الفرنسية الترويج له، ويفيد باستسلام المجاهدين، فرد الشيخ يقول : "طالعت في العدد 1077 من جريدتكم خبرًا أثار عجبي؛ إذ لا بد أنه صادر عن بعض المفسدين؛ فقد نسبوا إلينا أننا سلمنا أنفسنا للفرنسيين. والواقع أنه لا أصل لذلك أبدًا؛ فنحن لن نتوقف عن الجهاد من أجل وطننا وديننا وشرفنا العربي الموروث، بكل إرادة وحزم.. نحن لا نعترف إلا بدولة واحدة (دولة الخلافة)، وقد تركنا أرزاقنا وعائلاتنا وبلادنا، ويظهر أنكم لم تطلعوا على أعمالنا؛ فإياكم أن تصدقوا ما تروجه الصحف من أخبار… التوقيع: الكولونيل علي بن خليفة".
رحيله قصم ظهر الثورة فرغم مساعي الشيخ المتعددة لإنهاض حالة الثورة؛ فإن وضعه وأتباعه في المهجر قد زاد سوءًا مع مرّ الأيام؛ وذلك لقلة الموارد الطرابلسية، وإهمال السلطات العثمانية في النجدة من جهة أخرى. وقد اجتمع كل ذلك في نفس الشيخ، وخاصة إحساسه بالعجز عن رد الفعل إزاء تقدم الفرنسيين وامتهان كرامة التوانسة، وصعدت روحه إلى بارئها. لقد أبى العجوز المتمرد أن يعيش يومًا واحدًا تحت سلطان القهر، ومات وهو يمتطي صهوة جواده عام 1885.
__________________________________________________________________________