«جنين... جنين» تخطّى حدود «الديموقراطيّة»، والقتلة لا يحبّون «التشاؤل»
القدس المحتلّة ــ نجوان درويش
سيكون المشهد سريالياً اليوم خلال محاكمة محمد بكري في تلّ أبيب. عند الساعة 11:30، سيقف خمسة جنود من الوحدة التي نفذت مجزرة مخيم جنين في نيسان (أبريل) 2002 ليتّهموا الممثل الفلسطيني اللامع بـ«تشويه سمعتهم» ويطالبوه بتعويضات مالية بسبب ما «أصابهم» من شريطه التسجيلي «جنين جنين»!
«جلسة اليوم» هي محاكمة جديدة جاءت بعد سلسلة «محاكمات» إسرائيلية تعرّض لها بكري منذ العروض الأولى لـ«جنين جنين» الذي أخرجه بكري بإمكانات بسيطة وجهد ذاتي ويبدو حتى الآن الأهم بين الأفلام التسجيلية عن مذبحة جنين. وصل بكري المخيم مباشرةً بعد انسحاب الجيش الذي حاصره طوال أيام تنفيذ المذبحة. من فوق ركام المنازل والألم الهائل بعد الكارثة، قدّم بكري شهادة موجعة وقوية وإدانةً دامغةً لوحشية المجرمين. وهو ما لم «تغفره» له المؤسسة الإسرائيلية. ببساطة لقد جعلوه يدفع ثمن جرأته.
وإن كانت مجريات أزمة «جنين جنين» في السنوات الماضية تتلخّص بالتحريض على بكري في الصحافة العبرية وجلسات الكنيست والمحاكمات المتعلقة بمنع بثه في إسرائيل وإجراء مقاطعة إسرائيلية شاملة لبكري؛ فإنّ محاكمة اليوم سريالية بامتياز: القتلة يحاكمون ضحاياهم عبر محاكمة الفنّان الذي قدّم صوتهم. ووفق هذا المنطق، فإنّ قتل الضحية يوجب قطع لسانها إلى الأبد. وإذا تكلّم محمد بكري بفصاحة وتأثير فلا بد من تلقينه درساً وجعله عبرة للشجعان! هذا هو المنطق الذي تستعمله المؤسسة الإسرائيلية لـ«ترويض» «مواطنيها» من الفلسطينيين ـــــ خصوصاً الذين يكسرون قواعد اللعبة المعروفة مع المؤسسة الإسرائيلية. تقول هذه القواعد غير المعلنة «هناك حدود... ومن يتجاوزها يعاقب».
في «جنين جنين»، لم يحسب محمد بكري حساباً لأحد. فعل ما لم يفعله مخرجون فلسطينيون مكرّسون في ضعفهم أمام جهات إنتاج دولية يهمها الضوء الأخضر الإسرائيلي! ولأن بكري نفّذ الشريط بإمكانات ذاتية ومن دون إملاءات التمويل، فقد قدّم رواية فلسطينية بليغة بلا التنازلات التي اعتادت تقديمها بعض الأفلام الفلسطينية لتكون «مقبولة». وكلمة «مقبولة» تعني هنا أنّها تقتصر على تقديم رواية فلسطينية ناقصة، يظنّ أصحابها أنّ موقع الضعيف الذي ينطلقون منه لا يخوّلهم حق قول كلامهم كله.
رأى بعضهم في «جنين جنين» ولادةً جديدةً لبكري الذي طالما تعرض لانتقادات بسبب بعض أدواره في أفلام إسرائيلية أو عالمية وُصفت بأنّها قدمت صورة نمطية عن الفلسطيني. لكنّ صاحب «جنين جنين» دخل طوراً آخر عندما تمكّن من تقديم أفلامه الخاصة التي كان آخرها «من يوم ما رحت». وقد جاءت بعض هذه الانتقادات لمجرد تمثيله في إنتاجات اسرائيلية مسرحية أو سينمائية، فيما ذهب بعضها أبعد في التشكيك بمواقف بكري. وهو ما يبدو لنا مبالغاً فيه وإسقاط آفات المرحلة كلّها على فنان لم يزعم في يوم من الأيام أنّه بطل ولا أنّه معصوم من الخطأ! في النهاية، بكري صنيعة موهبته وعلاقته بشعبه لا نتاج المؤسسة الفنية الإسرائيلية التي انخرط فيها لفترة محددة مع مجموعة كبيرة من فناني الداخل. تلك المسألة التي ما زال يتعرض لها فنانو الأجيال الجديدة في فلسطين المحتلة عام 1948 وتحديدهم للعلاقة مع المؤسسة الاسرائيلية. إذ يبدو «التشاؤل» جزءاً من ميكانيزم المقاومة نفسه!
في «من يوم ما رحت»، يستعيد بكري سيرة عشر سنوات مضت منذ غياب إميل حبيبي الشيوعي السابق والسياسي الإشكالي والروائي المهم الذي مسرح محمد بكري روايته «المتشائل» وقدّمها منذ عام 1986 وقد تبدو أفضل مونودراما فلسطينية حتى الآن. استحضار إميل حبيبي في الفيلم نوع من محاكمة لـ«التشاؤل» حيث مونولوجات محمد بكري واسترجاعاته السيرية والعامة لما حدث في العقد الذي مضى منذ وفاة حبيبي برؤيا تتفق مع معلمه حبيبي وتختلف معه. وتبرز فيه خاصة قضية فيلم «جنين جنين» وملابساتها وعلاقتها بقضية أخرى عائلية حين اتُّهم أفراد من عائلة بكري بمساعدة «منّفذ عملية انتحارية» وربط المؤسسة الإسرائيلية بين القضية وحربها على «جنين جنين». في الفيلم مشاهد لبكري في أروقة المحاكم يدير ظهره للكاميرا ويمشي وحيداً في الكوريدور كأنه شجرة مقطوعة من جبال الجليل.
تستدعي محاكمة محمد بكري جملة قضايا متشابكة عنوانها الرئيسي فلسطينيو الـ48 وعنوانها الفرعي هو العلاقة الإشكالية للإنتاج الفني الفلسطيني داخل الـ48 مع المؤسسة الإسرائيلية. السؤال إشكالي بامتياز يفرضه الوضع الإشكالي لأهل فلسطين عام 1948 الذين وجدوا أنفسهم أسرى المواطنة الإسرائيلية وضحايا قادة حركة تحرّر الوطني أسقطوهم من حسابات التحرر!
«أنتم إسرائيليون» قال لهم العالم! هذه تراجيديا لا مثيل لها. مثلاً في الدراما الإغريقية نعثر على شيء منها أحياناً: ابنتا أغامنون في نص سوفوكليس اللتان بقيتا في بيت والدهما بعدما احتلّه القاتل وأعلن نفسه ملكاً بدل أغامنون بالتواطؤ مع زوجته الخائنة. إحدى الأختين إلكترا كانت تنتظر أخاها الغائب أورست ليأتي ويخلّصها من الذل ويستعيد ملك أبيه ويعاقب الخونة. أما الأخت الثانية، فكانت تطلب من أختها أن تمتثل للواقعية وألا «تضيّع» حياتها.
في الثقافة الفلسطينية وعلاقتها بالمؤسسة الإسرائيلية، نسمع صوت الأختين الإغريقيتين معاً! وعلى خلفية أصواتهما يُناقش مفهوم المقاومة وتتجدد أسئلته. ذلك المفهوم الذي تدرّج من المقاومة بالسلاح وصولاً إلى المقاومة السلبية والمقاومة بالصبر وبالحيلة!
محاكمة محمد بكري اليوم (التي تأتي بعد ربع قرن وثلاثة أيام على مذبحة صبرا وشاتيلا) هي محاكمة مزدوجة. من جهة، العار الإسرائيلي يحاكم نفسه بطريقة معكوسة... فكم سيبدو الجنود الخمسة القتلة أقزاماً قبالة قامة فنان جعل نفسه في لحظة ناياً بيد شعبه. ومن جهة أخرى، هي ليست محاكمة شخصية لمحمد بكري. إنها محاكمة للفن الفلسطيني عندما يجترح مقاومة حقيقية. هذا الصباح أصوات حرّة كثيرة ترسل تحياتها إلى محمد بكري المتشائل المقاوم.