حصار قلقيلية جريمة ضد الإنسانية بامتياز
بقلم عبد الحميد صيام |
أكثر ما أصابني بالدهشة والصدمة معا عند زيارة مدينة قلقيلية سكوت المجتمع الدولي والعربي والمحلي أمام الحصار المطبق على هذه المدينة المناضلة والتي يلتف جدار الفصل العنصري حول عنقها من كافة الجوانب ويبقي فتحة صغيرة للدخول والخروج لسكانها عند السماح لهم بذلك. عند ذلك المدخل أقيم حاجز ثابت ومعسكر للجيش الإسرائيلي للتحكم المطلق في مصير الخمسين ألفا الذين يقبعون داخل هذا السجن محكم الإغلاق. هذه الدهشة والصدمة ليسا بسبب أنني لم أكن أعرف أن قلقيلية محاصرة بل لأن معاينة الأمور على الواقع تختلف كثيرا عن قراءتها في الصحف أو مشاهدتها على التلفاز... |
خاصة أن زيارة المدينة تمت بصحبة عينة واعية من مسؤولي برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وبعض الشخصيات المحلية لإعطاء فكرة أشمل وأدق عن معاناة مدينة يلتف حبل المشنقة حول عنقها بشكل دائم ويستطيع سجانها أن يسحب الحبل من مقره المكيّف ويحولها إلى جثة دون حاجة حتى إلى معاينة الجثة. أسباب الحقد على قلقيلية قلقيلية ظلت مصدر قلق وتهديد لإسرائيل منذ إنشائها كدولة فرضت بقوة السلاح على منطقة تلفظها. فالمدينة لها تاريخ طويل في النضال قبل إنشاء الكيان الغاصب وخلال ثورة 1936 وحرب 1948 وسقط منها ومن قراها مئات الشهداء مثبتة أسماؤهم في كتاب عارف العارف «النكبة الفلسطينية والفردوس المفقود». تتمتع قلقيلية بثلاث مزايا لا تتوفر إلا فيها: فهي أقرب نقطة إلى الساحل الفلسطيني الذي تراه بالعين المجردة وقلقيلية تتربع على أكبر احتياطي مياه في الضفة الغربية يصل إلى 57% من مخزون مياه فلسطين، كما أنها محاطة بأجمل وأخصب الأراضي الزراعية في فلسطين. جزء كبير من تلك الأراضي وقع تحت الاحتلال الإسرائيلي عام 48 والقسم الأكبر من الأراضي الساحلية ضم إلى إسرائيل بعد اتفاقية رودس للهدنة، مما ترك حسرات عميقة في قلوب أهلها حيث كانوا يشاهدون بياراتهم المسلوبة أمام عيونهم يتمتع بها الأغراب الذين قدموا من بولندا وأكرانيا وغيرها. وكانت ظاهرة التسلل إلى تلك البيارات بعد قيام إسرائيل منتشرة، وقد سقط على أثرها العديد من أبناء البلدة الذين كانوا يغامرون بحياتهم لقطف ثمار بياراتهم. وقد أثارت عمليات التسلسل هذه أعصاب المؤسسة الصهيونية فأقسم موشي ديان أن يحرث قلقيلية. وبالفعل اقتحم البلدة بقوة كبيرة ليلة العاشر من شهر تشرين الأول (أكتوبر) عام 1956 وتصدى الأهالي وعناصر من الحرس الوطني للغزاة وصدوهم مرتين ثم عاودت القوات الغازية بحشد أكبر فاقتحمت المدينة ودمرت العديد من المباني ومركز الشرطة وخلفت وراءها أكثر من 70 ضحية برئية. في حرب حزيران (جوان) 1967 قررت إسرائيل هدم المدينة على من فيها، فقامت الطائرات بتدمير نحو 70% من مباني المدينة على أمل محوها عن الوجود كما حصل في قرى عمواس ويالو وبيت نوبا القريبة من اللد والرملة. غير أن ظروفا دولية وتدخلات خارجية سمحت للمهجرين من المدينة الذين التجأوا إلى الكهوف والوديان أن يعودوا إلى مدينتهم ويبنوها من جديد. «قلقيلية مأساة متجددة نعيشها كل يوم صباح مساء» قال طبيب يعمل في مستشفى درويش نزال الحكومي الذي أنجز مؤخرا بجهود مشتركة بين برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وحكومة سلام فياض. «كنا قبل الحرب نشاهد إلى الغرب بياراتنا يقطفها الأغراب، الآن وبعد اكتمال الجدار العنصري حرمنا من أراضينا من كل الجهات. المشكلة لا تنتهي عند الجدار بل إن شبكة من المستوطنات الزراعية والأمنية تشكل الحاجز الثاني والأخطر حول عنق المدينة وتلتهم الرقعة الأكبر من أراضي المدينة.» بين غزة وقلقيلية حصار غزة أرحم بكثير من حصار قلقيلية دون التقليل من خطورته وجرائميته. فغزة لها مدخل ولو ضيق على البحر، ومعبر على مصر يفتح ويغلق حسب إرادة الوضع العربي والدولي، وغزة أتقنت علم حفر الخنادق تدخل منها كافة أنواع البضائع والمستلزمات من الإبرة إلى البقرة. وغزة تتحرك في رقعة جغرافية أوسع وكثافة سكانية عالية يشد بعضها بعضا وقادرة على الصمود ليس أمام التجويع فحسب بل وأمام قاذفات القنابل الفوسفورية. وغزة لم تستطع كل قوى الشر المحلية والعربية والدولية من تفريغها من سلاحها البدائي أما قلقيلية فتم تفريغها ليس من السلاح فحسب بل ومن كافة العناصر المناوئة للاحتلال بمن في ذلك القيادات المنتخبة، وحصار غزة يحتل عناوين الأخبار ويثير أكبر حركة تعاطف دولي في العصر الحديث أما حصار قلقيلية فأراهن أن بعض وزراء فياض لا يعرفون عنه شيئا ولم يزوروا هذه المدينة ليتعرفوا على حجم المأساة التي لا تعنيهم كثيرا. قلقيلية باختصار أشبه بزنزانة صغيرة ضمن سجن كبير، إن تمكنت من الفرار من الحلقة الأمنية الأولى فستلتقطك الثانية فالثالثة فالرابعة. إذن أين المفر والعدو من أمامها ومن خلفها ومن كافة جوانبها ومن فوقها ومن تحتها؟ عبد الحميد صيام أستاذ جامعي فلسطيني مقيم بنيويورك |